من «نقد الفكر الديني» ـ هذا الكتاب الذي كنّا أواخر سبعينيات القرن الماضي نقرأه ونتداوله كأي منشور سرّي لحزب محظور، ونتباهى باقتنائه كأية تحفة نادرة ـ إلى «العلوية السياسية» مروراً بـ «ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب» و «ما بعد ذهنية التحريم» لم يغادر الكاتب السوري «صادق جلال العظم» دائرة السجال، تارة مع الغيب في كتابه الأول، وأخرى مع التراث في كتابه «في الحب والحب العذري» ومرّة مع سدنة التحريم والتحليل في ما يجوز ولا يجوز من اختراق للخطوط في العملية الإبداعية، والأدبية منها على وجه الخصوص. إذ تصدّى في كتابيه عن ذهنية التحريم وما بعدها لمنتقدي سلمان رشدي وكتابه «الآيات الشيطانية». وإذا كان الغيب خصمه في السجال حينما تصدّى للفكر الديني فإن خصومه في الدفاع عن سلمان رشدي كانوا من المحسوسية والتعيّن بحيث يحسبون على النقد والفلسفة (عبد الرزاق عيد، أحمد برقاوي، ...) ولهذا فقد لجأ في كتابه الأول إلى البحث عن الممكن الآخر، وعن السرد المُغيّب، الذي بتأكيده وإظهاره زعزعة للسائد المستبدّ وقطعاً لسرد الغيب. وكان المتداول المُتبنّى هو موضوع السجال الذي لا يستقيم ولا يكتمل إلا باستحضار الضد أو بإبراز شرط التمايز. ولكنه في ذهنيّة التحريم لا يجد نفسه مضطراً لاستحضار الضدّ كممكن مغلوب ومقموع، بل يجد ضالته في الإضاءة على التاريخ الإسلامي ذاته، فيستخرج منه صك براءة (رشدي) وصك ضحالة وغباء منتقديه، لدرجة أنه يصل إلى نتيجة مفادها أن أحمد برقاوي قد أطنب في التشنيع بسلمان رشدي وكتابه من دون أن يكون قد قرأ الكتاب.
همّ معرفي
لقد كان صادق جلال العظم، المختص بالفلسفة، والأستاذ في أكثر من جامعة، مساجلاً شرساً في كل الموضوعات التي تصدّى لها، لكن مشروعه السجالي هذا على مدى عقود وآلاف الصفحات لم يرتق يوماً إلى المستوى الذي يمكننا من اعتباره مشروعاً فكرياً ينطوي على هم معرفي مؤهل لإنتاج منظومة فكرية معرفيّة يوسم بها دون غيره. وأجد بأن روح السجال التي تسيطر على آليات عمله الفكري قد أعاقت مثل هذا الإنجاز. فالسجال يقدّم المعلومة والواقعة من دون أن يدرجها في كل معرفي يتخذ طبيعة البنية المتماسكة. إنه أقرب إلى التشظي المدفوع بالنزق منه إلى الإمساك بالفكرة التي تشكل نواة لمشروع يحطّم معرفة بمعرفة. وهذا ما جعل من العظم لدى القرّاء والمتابعين والدارسين أسير كتابَيه «نقد الفكر الديني» و «ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب» إذ يظهران بجلاء مُساجلاً إنساناً نزقاً ومشاكساً، وتحديداً في ما يتعلق بظلامية وعسف الفكر الغيبي.
وبخصوص الروح السجالية التي وسمت مشروع العظم الفكري لا بدّ من التوقف عند التضييق الذي تفرضه هذه الروح على ذاتها، والتي تأخذ بالمساجل في الكثير من الأحيان إلى قيد فكرته وسجنها، بحيث تصبح الغاية من تأكيد صوابية الفكرة أهمّ بكثير من الفكرة ذاتها، وهذا ما يمكن تلمّسه في كتابه «نقد الفكر الديني» إذ لا يبدو أحياناً نقداً لفكر بقدر ما هو تخطيء لواقعة ميتافيزيقية تسردها قصة دينية، وهذا أيضاً ما يتبدى في كتابه «العلوية السياسية». وهنا يظهر الأيديولوجي، والنسخة الدوغمائية منه على وجه الخصوص، إذ إن النمط السجالي في الممارسة الثقافية يميل إلى اليقيني ويحييه على أنه وجهة نظر، ولكنها في أحيان كثيرة تطرح على أنها شيء غير قابل للدحض، أو أنها نوع من المقدس الذي لا يجوز المساس به، ويتحوّل السجال بالتالي إلى جواز أو عدم جواز نزع القداسة عما كان في البداية وجهة نظر من قبل الخصم، أو المُساجل الآخر.
نزعة إيديولوجية
هذه النزعة الأيديولوجية المتوارية عند صادق جلال العظم ما كان لها أن تظهر بوضوح وجلاء في سجالاته وإن تبدّت بعض ملامحها هنا أو هناك. لكنها لم تلبث أن ظهرت دفعة واحدة حينما حاول أن يقدّم فكرته غير السجالية في كتابه «العلوية السياسية»، إذ تكشّف هذا الكتاب عن مجموعة من محاولات الربط الهشّة والواهية بين الظواهر والأسباب، كما بين النتائج والمقدمات، وكان ظاهراتياً محضاً، وبعيدا ً كل البعد عن المعرفيّ الذي يجهد لكشف ما وراء الواقع الاجتماعي من علاقات حاكمة ومؤثرة، كما كان ميله إلى عنوان تعبوي كهذا، في الظرف الذي تعيشه سورية، تأكيداً على مقامرته بكلّ معرفي في سبيل الأيديولوجي الشعبوي، ومن الدلائل على هذا أيضاً أنه بات سياسياً في صف يجمعه مع من وصفهم قبل سنين بأصحاب ذهنية التحريم، وأقصد عبد الرزاق عيد وأحمد برقاوي، الذين جمعهم مع مصطفى طلاس وغيره كنماذج على مصادرة الحريّة في الإبداع وقيامهم بدور المطاوعين على كل من يخرج عن القطيع. فهل أصبح هؤلاء اليوم دعاة ديموقراطية وحرية بحيث تجمعهم الدرب ذاتها مع صادق جلال العظم؟ أم أن للسياسة مقاييس أخرى يتم على أساسها التضحية بكل قيمة معرفية وأخلاقية من أجل البقاء في الصفوف الأولى، أو من أجل الحصّة الأكبر في كعكة العيد؟!!
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية "و"السفير العربي"]